فصل: سورة التحريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (8- 11):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)}
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الامر، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في كَأَيِّنْ في آل عمران والحمد لله. {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها} أي عصت، يعني القرية والمراد أهلها. {فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً} أي جازيناها بالعذاب في الدنيا {وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً} في الآخرة.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر: المنكر. وقرى مخففا ومثقلا، وقد مضى في سور الكهف. {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها} أي عاقبة كفرها {وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً} أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا، والآخرة بجهنم. وجئ بلفظ الماضي كقوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] ونحو ذلك، لان المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة، وما هو كائن فكأن قد. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً} بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ} أي العقول. {الَّذِينَ آمَنُوا} بدل من أُولِي الْأَلْبابِ أو نعت لهم، أي يا أولي الألباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن، أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم. {رَسُولًا} قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا.
وقيل: إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا، رَسُولًا نعت للذكر على تقدير حذف المضاف.
وقيل: إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر، والتقدير: قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله: {محمد رسول الله} [الفتح: 29]. ويجوز أن يكون رَسُولًا بدل من ذكر، على أن يكون رَسُولًا بمعنى رسالة، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى، كأنه قال: قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو. ويجوز أن ينتصب رَسُولًا على الإغراء كأنه قال: اتبعوا رسولا.
وقيل: الذكر هنا الشرف، نحو قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، ثم بين هذا الشرف، فقال: رَسُولًا. والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلي الله عليه وسلم.
وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعا منزلين. {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ} نعت لرسول. وآياتِ اللَّهِ القرآن. {مُبَيِّناتٍ} قراءة العامة بفتح الياء، أي بينها الله. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. والأولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} [الحديد: 17]. {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أي من سبق له ذلك في علم الله. {مِنَ الظُّلُماتِ} أي من الكفر. {إِلَى النُّورِ} الهدى والايمان. قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الإخراج إلى الرسول لان الايمان يحصل منه بطاعته. قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}. قرأ نافع وابن عامر بالنون، والباقون بالياء. {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} أي وسع الله له في الجنات.

.تفسير الآية رقم (12):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض، دل على ذلك حديث الاسراء وغيره. ثم قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يعني سبعا. وأختلف فيهن على قولين: أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح، لان الاخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في البقرة. وقد خرج أبو نعيم قال: حدثنا محمد ابن علي بن حبيش قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج، ح وحدثنا أبو محمد بن حبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص ابن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها». قال أبو نعيم: هذا حديث ثابت من حديث موسى ابن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره.
وفي صحيح مسلم عن سعيد ابن زيد قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» ومثله حديث عائشة، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة». قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز.
وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما- أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني- أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الأرض كالكرة.
وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة، ليس: بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لاحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى أحتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم، لان فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها واردا، ولكان صلي الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه، وصواب ما اشتبه على خلقه. ثم قال: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قال مجاهد: يتنزل الامر من السموات السبع إلى الأرضين السبع.
وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. والامر هنا الوحي، في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله: بَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: الأمر القضاء والقدر. وهو قول الأكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: {بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم.
وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها، كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن، وإن استوى كل ذلك، في مقدوره ومكنته. {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته. ونصب عِلْماً على المصدر المؤكد، لان أَحاطَ بمعنى علم.
وقيل: بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما. ختمت السورة بحمد الله وعونه.

.سورة التحريم:

سورة التحريم مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة النبي.

.تفسير الآية رقم (1):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلي الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير! أكلت مغافيرا؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: «بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له». فنزل: {لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {إِنْ تَتُوبا لعائشة وحفصة، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً} [التحريم 3] لقوله: «بل شربت عسلا». وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلي الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟- وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح- فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العرفط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة- قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: «لا» قالت: فما هذه الريح؟ قال: «سقتني حفصة شربة عسل» قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه. قال: «لا حاجة لي به» قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة.
وفي الأولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيره لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول. وقول آخر- أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلي الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث- إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها- وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها- فقالت له: تدخلها بيتي!
ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: «لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها» قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: «لا تذكريه لأحد». فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية.
الثانية: أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي: أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلان رد النبي صلي الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لان من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: «أنت علي حرام والله لا آتينك». فأنزل الله عز وجل في ذلك: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا! قالت: بلى، وقد كان أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع.
الثالثة: قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ} إن كان النبي صلي الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل: هذا علي حرام شيئا حاشا الزوجة.
وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة.
وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلي الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ} [التحريم: 2] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لاحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلي الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
الرابعة: وأختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: أنت علي حرام على ثمانية عشر قولا:
أحدها: لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام، قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله.
وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} [النحل: 116]. وما لم يحرمه الله فليس لاحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: «والله لا أقربها بعد اليوم» فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
ثانيها: أنها يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعائشة-رضي الله عنهم- والأوزاعي، وهو مقتضى الآية قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها.
وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، يعني أن النبي صلي الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ} فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني.
وثالثها: أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.
ورابعها: هي ظهار، ففيها كفارة الظهار، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وخامسها: أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
وسادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وثامنها: أنها ثلات تطليقات، قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة.
وتاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي ابن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك.
وعاشرها: هي ثلاث، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل، قاله عبد الملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
وحادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم.
وثاني عشرها: أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر، إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها: أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا، قاله ابن القاسم.
ورابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.
وخامس عشرها: إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وسادس عشرها: إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة.
وسابع عشرها: له نيته ولا يكون أقل من واحدة، قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شي، قاله ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد في المقالات عندي. قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت! ليست عليك بحرام، ثم تلا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلي الله عليه وسلم، قاله زيد بن أسلم وغيره.
الخامسة: قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شي. وأما من قال إنها يمين، فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين، فبناه على أحد أمرين: أحدهما- أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يمينا. والثاني- أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطي كذلك، فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطي. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلانه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي: وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوي في التي لم يدخل بها، فلان الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلانه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم. والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الامة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أن ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد. قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلي الله عليه وسلم في بيتها بجاريته، ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلي الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد ابن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال: «لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا». يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: «ولن أعود له» على جهة التحريم. وبقوله: «حلفت» أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} يعني العسل المحرم بقوله: «لن أعود له». {تَبْتَغِي مَرْضاتَ} أَزْواجِكَ أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.